عزيزتي غادة..
نزلت عليّ رسالتك كما المطر على أرض اعتصرها اليباس. مثلك لا شيء. مكانك لا يملأ، 
كلماتك وحدها التي لها صوت يغطس إلى أعماقي. أراك دائماً أمامي، أستاقك، 
أعذب نفسي بأن أحاول نسيانك فأغرسك أكثر في تربة صارت كالحقول التي يزرعون فيها الحشيش: لا تقبل زرعاً غيره 
إلا "عباد الشمس"، وأنا لن أنهي حياتي عباداً للشمس. 
أقول لك: إنني أشتهيك، ولا أستحي لأنك صرت الشيء الوحيد الذي أخفق له. 
هل سأراك حين تعودين؟ أم تفضلين الكفر بتلك الساعات التي جبلت في لحمنا؟
مأساتي ومأساتك إنني أحبك بصورة أكبر من أن أخفيها وأعمق من أن تطمريها. أتراك في نفس المكان؟ 
إذاً يا للمأساة التي لن تنتهي! 
أقول لك: تعالي، ودعينا نهدم الجدران جميعاً، إن حياتنا أصغر من أن نهدرها في الشطارة. أعترف!
وها أنا ذا متروك هنا، كشيء!
كيف تركتك تذهبين ؟
كيف لم تطبق كفاي عليك مثلما يطبق شراع في بحر التيه على حفنة ريح ؟
كيف لم أذوبك في حبري ؟ كيف لم أجعل من لهاثينا معاً زورقنا الواحد إلى نبض الحياة الحقيقي ؟
كيف ذهبت دون أن أحس بك ؟ كيف مرت عيناك في عمري دون أن تتركا على وجهي بصماتهما؟ 
كيف لم أتمسك بك؟ كيف تركتك يا هوائي وخبزي ونهاري الضحوك " تمضين “؟
أيتها المرأة الطليقة، يا من قبلك لم أكن وبعدك لست إلا العبث، 
كيف انخلعت هكذا عني؟ كيف شلت مرساتك من عشبي وتركت بحري؟ 
بعدِك ليس إلا الخواء، دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل.
عشت معك حقيقة عمري. ضعت فيك إلى حد لم أصدق أنه قد تمضين، 
كان ذلك مثل المستحيل، ولكنك – ذات صباح - غبتِ، كما لو أن شروقك في جبيني لم يكن!
أيتها الطليقة..
ذلك كله عبث. الكلمات كلها علكت من قبل أناس آخرين، ولكن وقع يدكِ على جبيني كان دائماً ولادة لشيء رائع ومتوهج، 
مثل ومضة لهب، كان دائماً شيئاً خاصاً وشخصياً ولا يعوض.
الكلمات عبث أيتها السحابة التي أمطرت على جفافي موسماً من الخصب، 
الكلمات عبث، وأنت كنت دائماً لغتي التي لا يفهمها أحد، وراء التعويذات التي اخترعها أجدادنا وسموها حروفاً وأصواتاً، 
لقد كان شعركِ مطري، وراحتك وسادتي، وذراعك جسري، وعيناك بحري، وشفتاك كأسي. 
كان انتظارك عمري، وحضورك ولادتي وغيابك ضياعي.. وها أنت تذهبين مثلما تعبر ريح الصباح شباكاً مهجوراً: 
تحييه لحظة، ثم تعيده إلى الغيب..
كيف تركتك تذهبين؟ 
ما الذي سأفعله بعدك؟ 
أي أرض ستخصب بعدك؟ وأي شباك سيدخل إلى جفافي ويباسي ريح الصبح ؟
سأعلك الندم عمري. ندمك وندمي. 
أنتِ وأنا اعتقدنا أن في العمر متسعاً لسعادة أخرى، ولكننا مخطئون، المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، 
وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض.
ننسى؟ ذلك مستحيل، 
وأنا - أيضاً - لا أريد أن أنسى. ليس بوسعي أن أطمر الزهرة الوحيدة في عمري هكذا، لمجرد أنك ذهبت،
 وأن أملي في أن ألقاك هو مثل أملي في أن ألقى طفولتي.
فيا أيتها الطليقة التي حملها جناحاها إلى أرض لا أعرفها، والتي كان عليّ منذ البدء أن أعرف بأنها، 
مثل العصافير، ستضرب في فراغ السماء وجاذبية المدى الذي لا يحده حد، لست أطمع منك بالعودة. 
لقد رف جناحاك في زنزانتي وتركا في هوائها الساكن شيئاً يشبه خفق القلب، زرعا في صمتها خفقة طليقة 
وتركاها تغطس في وحدتها المرة.
لست أطمع منك بالعودة، فالعصافير لا تسكن أعشاشها مرتين، 
وحين نفضت عن ريشك كسل القرار عرفت أنا أنكِ لن تعودي..
ولكن كيف تركتك تذهبين؟ 
ليس عندي، أيتها الطليقة، يا خبزي ومائي وهوائي، إلا الندم، وبعيداً في قراره توجد بذرة للشجرة القادمة..
بلى..
سأراكِ مرةً أخرى، ذات يوم. 
إن العمر خديعة، يا طليقة، وإلا كيف يمكن أن يكون عمري معك عمراً وعمري دونك عمراً أيضاً، 
وكيف يمكن – بعد هذين العمرين – أن أراك مرة أخرى وتكونين أنت وأكون أنا؟ 
ماذا أقول لك؟ إن النسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة، 
ومع ذلك فأنا لن أنساك . أنت تخفقين في رأسي مثل جناحي عصفور طليق ، أمام بصري ينتثر ريش الطائر الذي حط وطار ، 
مثل لمح البصر ..
وها أنا ذا، متروك هنا كشيء، على رصيف انتظار طويل، يخفق في بدني توق لأراك، وندم لأنني تركتك تذهبين. 
أشرع كفيّ اللتين لم تعرفا منذ تركت ، غير الظمأ .
وأقول : تعالي ..
**
-- رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان
موسيقى: 
Passing Time لـ Kevin MacLeod

YouTube Audio Library

من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان

أَيَا مَن لَيسَ لِي مِنهُ مُجِيرُ
بِعَفوِكَ مِن عَذابِكَ أَستَجِيرُ.


  عاش عمره يشبه نفسه و في صدقه شخص "عادي".

" صوتك وِجْهةٌ ــ  وأنا غَريبْ"

قلبي موسوم بالغياب
واهـنة شجرة الأحتمالات التي أعلق عليها 
امنياتي

من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان

Batool Abuali