القول بأن القرآن معجز لغويا يلزم منه بالضرورة القول بأن اللغة العربية تحمل تركيباتها اللغوية احتمالية إنتاج كلام معجز.. دون اشتراط متكلم معجز.. وإلا لم يكن للتحدي معنى.. ولكن بواقع الحال فاللغة تتفاوت أساليبها التعبيرية وطبيعتها الصوتية ومستوياتها البلاغية باختلاف المكان والزمان وموضوع الحديث..

وانظر إلى ما بين.. فيا لك من ليل كأن نجومَه.. بكل مُغارِ الفتلِ شُدّت بيَذبُلِ.. وبين.. أَبُدّلَ الليلُ لا تسري كواكبهُ.. أم طال حتى حسبت النجم حيرانا..

كذلك القرآن تتفاوت طبقاته في خطاب القصص والتشريع والترهيب والترغيب والأمر والحكاية والقَسَم والتقرير.. وانظر إلى ما بين اقرا باسم ربك.. إنا عرضنا الامانة.. والصبح إذا تنفس.. ورحمتي وسعت كل شيء.. ذلك الكتاب لا ريب..

فلو كان الإعجاز منحصرا في الأساليب اللغوية لتعددت درجات الإعجاز لأن الأساليب نفسها تتدرج.. ولكن الحاصل هو أن طبيعة التحدي تنفي التدرج.. فالتحدي يطلب الإتيان بالمثل وليس جزء المثل أو بعضه.. 

ويشفع لهذا أنه إذا كان التحدي مستمرا عبر كل عصر.. للزم أن يرتبط بمحل يشترك فيه البشر عبر كل عصر.. وهو ما تعجز عنه اللغة والمعرفة كذلك.. لأن اللغة رهينة الوضع والاستعمال.. والمعرفة سليلة التاريخ والحضارة.. فهما قيد الزمان والمكان.. لا يشتركان تمامًا عبر العصور.. ولكن المشترك المتكرر بين الإنسان المعاصر وبين من عاصر الوحي هو النفس البشرية.. 

وعلى ذلك؛ فالإعجاز الملازم لا يحصره التعبير اللغوي وحسب.. بل ما يحدثه هذا التعبير في النفس من رجفة او سكينة أو انكشاف.. وما ينشئه في الواقع والتاريخ من قانون ومعيار أخلاقي تتحرك به مجتمعات البشر وتستكن.. وتنهض به حضارات الأمم وتندثر.. 

وهذا بحد ذاته تأكيد على أن "الظاهرة القرآنية المعجزة" ليست مجرد بيان لفظي أو شكل بلاغي.. بل تفاعلٌ حيّ بين النص والقارئ والزمان والمجتمع.. فالمعجزة لا تكون بما يَعجز الناس عن صناعته فنيًّا فحسب.. بل بما يعجزهم عن ابتداعه أثرا.. وتحريكه وجدانيا.. وتأسيسه حضاريا.. 

وهكذا؛ فإن التحدي الإلهي لم يكن تحديًا لغويًا فحسب.. بل كان نداءً وجوديًا، يخاطب في كل نفس قابليتها للدهشة، واستعدادها للتسليم، وقدرتها على التلقي.. لا بالحس والعقل فقط، بل بالحضور..

هَل لا يَزال القُرآن مُعجزًا؟ | زَادْ

Mohamed Abdel-Maboud ZaD